peso مشرف المنتدى العام+الجوال
عدد الرسائل : 2846 العمر : 36 نقاط : 294114
| موضوع: التسامح الضائع ،،،،،،،،،،،، الجمعة أبريل 10, 2009 7:11 am | |
| عن التسامح الضائع
مشكلة الأشياء البريئة والجميلة أنها سريعة العطب والتهشم! التسامح، الاستقلال، الكرامة، الفضيلة، السلام... من ينازع في بياض هذه الكلمات؟ لكن الامور سرعان ما تظهر بصورة مغايرة، إذا ما مزجت بحنظل السياسة وكدر المصالح. مثلا، لا أحد يقول عن نفسه إنه ضد التسامح، ولكن المشكلة تظهر في تفسير وتحديد شكل التسامح، وإذا أردنا استخدام لغة واقعية مباشرة، فإن توسيع او تضييق حجم التسامح ، مرهون بمدى تحصيل المصالح، أو جلب الخسائر للجانب المطلوب منه أن يقبله.
ولذلك، فإنني لا أعتقد أن رجالا مثل الذين قاموا بمداهمة مكتبة (التراثية) في مدينة الرياض السبت الماضي، بحجة أنها تبيع كتبا «ضالة»، لمفكرين ومثقفين او لتيارات ومدارس دينية أخرى (العربية نت، الاحد 12 ديسمبر الجاري)، يرون أنهم متعصبون ومحاربون للتسامح، ومن المؤكد أنهم مسرورون بعملهم، ويرونه جديرا بالاعجاب.. والمساندة أيضا.
ومن قام بمطاردة كتب طه حسين ومحمد احمد خلف الله وعلاء حامد ونصر ابو زيد وديوان ابي نواس، في ماضي مصر وحاضرها، أو من لاحق رواية وجدي الاهدل في اليمن، وكتابات نجمة ادريس في الكويت، وموسى حوامدة في الاردن... الخ، كانوا بدروهم يعتقدون أنفسهم مشاعل تضيء من اجل الآخرين، ولا يصطدمون بجوهر الحرية الانسانية!
في مثل هذه الحالات، كثيرا ما يتكوم هذا السؤال مثل افعى: هل نحن جاهزون لـ«المروق» ومغادرة جلودنا إلى هذه الدرجة؟ هل هذا خوف مقبول، أم أنه يدخل في ميدان وسواس الفضيلة والهوية؟
العجيب أننا من أقل شعوب العالم إسهاما في الانتاج الادبي والنظري بكل صوره (نصا، صورة، صوتا، تشكيلا)، ولكننا من أكثرها قيودا وتدقيقا لهذا النتاج، أي بما معناه، أننا نخنق انفسنا ونمنع وصول الهواء الى صدورنا بكل اريحية وفرح!
ومع أن كثيرا من مثقفينا وخطبائنا لا يكلون ولا يملون من الوعظ في التسامح والتحضر، وأن جل الإعلام العربي الرسمي يبشرنا بروح وريحان وجنة نعيم الديموقراطية، الا أنه في كل عام، بل أقول في كل شهر تقريبا، لا نعدم خبرا عن محاسبة مبدع، او ملاحقة رواية، او لعن فيلم، او أغنية. فهل عجز الانتاج العربي الثقافي عن ان يكون ابيض في يوم من الايام، ام عجز الرقيب العربي عن ترك سواده؟
وحينما نتحدث عن «الرقيب»، فإننا نتحدث هنا عن حالة رقابية يمارسها العقل الجمعي، تتجاوز قدرة ذلك الموظف التعيس، الذي اصبح رديفا للبلادة والتحجر في مخيال الكتاب العرب المرصودين فرائس للسبع الرقابي.
نتحدث عن رقابة تمارس حتى على السياسي الممسك بأزمة القرار. انها رقابة جماعية، يمتزج فيها الاجتماعي بالديني بالسياسي، وتنجدل فيه توجسات مختلفة ومتباينة المصادر، لتحيط بصانع النص المسكين.
فالذي طارد الدكتور ابو زيد في مصر، لم تكن الدولة بل «الرقيب الاهلي»، او إن شئنا الدقة: المحتكر دور الرقيب الاهلي. ومن سخريات القدر أن الذي قاد الحملة ضد الدكتور ابو زيد، وهو الدكتور عبد الصبور شاهين، وقام مع آخرين ببناء تل من الكراهية والحصار حوله، تعرض هو الآخر، وبعد فترة يسيرة، الى حملة ملاحقة من رفيقه الشيخ يوسف البدري، وقام بـ«الاحتساب» عليه وطالب بمنع كتابه «ابي آدم» من التداول ومحاسبة صاحبه، برسم الضلال والزيغ!
هل نعاني من أزمة عميقة الجذور تمنع سريان ماء التسامح في عروقنا؟
ولماذا كان تاريخنا يحظى بهامش أوسع في التسامح، وصدر أرحب في قبول الآراء الاخرى، بل يقبل التنكيت على اشياء لا يقبل الآن محترفو المنع والحظر قبول ربعها أو خمسها.
يروي الأصفهاني صاحب كتاب «محاضرات الادباء»، أنه قد أسلم مجوسي فأطل عليه رمضان، فقيل له: كيف رأيت الإسلام؟ فقال:
وجدنا دينكم سهلا علينا
شرائعه سوى شهر الصيام
من يطيق الآن سماع نكتة كهذه أو روايتها؟
لدينا أزمة حقيقية في التسامح، ولا ندري هل تصالح طوائفنا وجماعاتنا الدينية والاجتماعية المتعددة، تصالح متين يمكن الاطمئنان اليه، أم هو هش تعصف به أدنى هبة ريح؟
ما دعاني الى طرح هذا التساؤل، بالإضافة الى ضيق صدورنا بالإبداع والاختلاف، هو حادثة السيدة المصرية وفاء قسطنطين، التي قيل إنها أسلمت رغما عنها، حسب رواية الكنيسة القبطية المصرية، او باختيارها كما تقول روايات أخرى، وفي تفاصيل الخبر الذي نشرته «الشرق الأوسط» الاحد الماضي، ان مصادمات أمنية وقعت بين البوليس المصري ومواطنين اقباط، يعتقدون ان هناك من يرغم بعض السيدات القبطيات على الاسلام.
في تقديري الشخصي، أنه ربما تكون هناك مبالغة في القول إن هناك «إجبارا» للقبطيات على الاسلام، ولكن ليس هذا موضوعنا، بل هو وجود مثل هذا الاحساس لدى طرف معين. وما بروز هذه المشاعر والاحتجاجات الا برهان على تأزم دفين واحتقان موجود، لا ينفع أن نكابر فيه، بل يحتاج الى تأمل فيه وشعور به، حتى نقضي على مواطن الداء. المعالجة الوقتية والأمنية، أو حتى التدخل المباشر من رأس الدولة، لن يكفي. والسبب أن هذه المشكلة تعود في نهاية المطاف إلى مكون ثقافي واجتماعي.
أعرف أن هذا الموضوع يضايق الشعور المصري كثيرا، وهذا مفهوم ومقدر، ولكنني أتحدث هنا عن حالة عامة أصابت أغلب المجتمعات العربية والإسلامية، لا المصري فقط. وفي سياق الخبر الذي بثته (العربية نت)، وصدرت به المقالة، أن مداهمي متجر الكتب في الرياض صادروا كتبا شيعية أيضا، ولا ننسى المصادمات الطائفية الدامية في باكستان.
صحيح أن الحالة المصرية مختلفة، وتاريخ التعايش بين المسيحيين والمسلمين قديم، وصحيح أيضا أن توتر الوضع، مربوط في كثير من محطاته بصعود المد الاصولي في مصر، لكن هذا لا يمنع من وجاهة السؤال: لماذا تسامحنا هش الى هذه الدرجة؟
هل نفتقد لفلسفة صلبة تؤسس لمفهوم التسامح، وتقيم العلاقة على أساس المواطنة المدنية، و«تكل أمر الخلق للخالق»، لكنها تباشر وتدير أمر الخلق في ما بينهم؟
وإذا كنا بالفعل نفتقد لهذه الجذور والاصول المؤسسة لهذا الاطار النظري والاخلاقي الكبير، حسبما يرى بعض المثقفين العرب، فلماذا لم تفلح محاولات «التجذير» و«التبيئة» التي بذلها منظرون وباحثون عرب ومسلمون، ولم تفلح جهودهم وحفرهم في رصيدنا التراثي، حتى هذه اللحظة على الأقل، في استيلاد عقل «مدني» جديد؟ ولماذا يثور الشعور الديني او الطائفي عند أدنى مهيج؟!
كنت في جلسة قبل أيام مع سياسي عربي مخضرم، تولى مهمات سياسية معقدة، وأدار قضايا تداخل فيها الديني بالسياسي، وما زال، وطرحت في الجلسة مثل هذه الاسئلة، فقال: «اعتقد ان مشكلة العرب الحقيقية تكمن في الاصلاح التربوي والتعليمي، وما لم يتم اصلاح هذا الخلل، فستظل أزمة التعصب موجودة». ولم ينس محدثنا تذكيرنا بغياب السلطان القانوني، الذي يضع الامور في نصابها، ولا يدع فسحات تصول فيها نزعات التعصب وتجول.
اعتقد انه كان محقا في «التركيز» على أولية الاصلاح التربوي والعقلي، حتى نعثر على التسامح الضائع ...
| |
|